ادمان النيكوتين

تسببه مادة يحتوي عليها التبغ

إدمان النيكوتين..!
الإدمان أو الاعتماد على العقاقير المغيرة للحالة المزاجية وللجهاز العصبي أمر قديم قدم البشرية ذاته، وهناك العديد من العقاقير التي تسبب هذا الإدمان (الاعتماد النفسي - الجسدي)، منها ما هو نباتي مثل الخشخاش الذي يستخرج منه الأفيون، ومن الأفيون يتم إستخراج المورفين، والذي يمكن تحويله بإضافة حامض الخليك إلى الهيروين، ومثل نبات القنب الهندي الذي يستخرج منه الحشيش (الماريوانا) من قممه الزهرية، ومنها التبغ المحتوي على النيكوتين المادة المسببة للإدمان في التبغ، ومنها مواد مصنعة مثل الامفيتامين ومشتقاته، ومنها الكحول الموجود في أنواع الخمور المقطرة وغير المقطرة.

قاتل البشر

والتبغ يقتل كل عام خمسة ملايين شخص (عام 2002 م) ، وسيزداد هذا العدد ليصل إلى عشرة ملايين بحلول عام 2020 م إذا لم تتخذ الإجراءات الكفيلة بإيقاف أعظم قاتل للبشر، وأعظم محطم للصحة عرفته البشرية في تاريخها الطويل، وكما تقدم فإن ضحايا القنبلتين الذريتين اللتين ألقيتا على هيروشيما ونجا زاكي في نهاية الحرب العالمية على اليابان (1944) كانوا 125.000 ثم مات بسبب الأمراض الناتجة عن الاشعاعات عدد مماثل، أي أن العدد الكلي لهاتين القنبلتين لم يتجاوز ربع مليون بينما قتل التبغ في العام الماضي فقط خمسة ملايين شخص أي أكثر من عشرين ضعفاً ما فعلته القنابل الذرية، ومنذ بداية القرن العشرين إلى نهايته قتل التبغ أكثر من مائة مليون شخص. (لاحظ أن هناك زيادة سنوية في ضحايا التبغ، وذلك بسبب زيادة عـدد المدخنـين في العالم حيث بلغوا حاليا 1200 مليون شخص أو خُمس سكان العالم).

ولا شك أن التبغ يقتل أكثر مما تقتله أشد الأوبئة فتكاً. فضحايا السل الرئوي يتراوح عددهم ما بين مليونين وثلاثة ملايين سنوي، وكذلك الملاري، وقد ارتفع عدد ضحايا الإيدز من بضعة آلاف عند بداية الثمانينيات إلى ما يقرب من ثلاثة ملايين العام الماضي وقد قتل الإيدز خلال العشرين عاماً الماضية ما يقرب من عشرة ملايين شخص، بينما قتل التبغ خلال القرن العشرين أكثر من مائة مليون شخص.

ولا يمكن أن نتصور مدى التحسن في الصحة العامة إذا تخيلنا بلداً ليس فيه تدخين ولا أي وسيلة من وسائل استخدام التبغ، وذلك كما تقول منظمة الصحة العالمية سيعادل في أهميته كل كليات الطب والصيدلة والتمريض، وجميع تكـاليف المســتشفيات والرعـاية الصحية.

وفي المملكة المتحدة (بريطانيا وأيرلنده الشمالية) كان عدد ضحايا التبغ 110.000 بينما كان عدد ضحايا الخمور 25.000 وعدد ضحايا المخدرات (المورفين، الهروين) 88 شخصاً و 77 طفلاً بسبب شم الغراء والثولوين... الخ.

ويبلغ عدد ضحايا التبغ في الصين أكثر من مليون شخص سنوياً. لاحظ كم اضطرب العالم واهتز لضحايا السارس الذين لم يبلغوا ثمانمائة شخص في العالم أجمع، بينما العالم لا يحس ولا يشعر بفداحة ضحايا التدخين.

ففي سبيل المكاسب الضخمة (للمبيعات بما يقرب من ثلاثمائة مليار دولار سنوياً) يمكن أن تفعل هذه الشركات العملاقة كل شئ يخطر بالبال.. ابتداءً من تكوين حكومات في العالم الثالث. وشراء مسؤولين وعلماء وإعلاميين.. إنها حرب كاملة بكافة الوسائل وهي لا تختلف في كثير أو قليل عن "مافيا المخدرات" سوى أن المخدرات ممنوعة رسمي، وتعاقب عليها الدول والحكومات عقوبات تصل إلى الإعدام بينما يدخل التبغ إلى كل دول العالم بدون أي مساءلة.

يقول قرار منظمة الصحة العالمية لعام 1986 م إن إنتاج وتسويق استخدام التبغ أخطر بكثير من كل عقاقير الإدمان وما يطلق عليه لفظ المخدرات مجتمعه إن النيكوتين مادة مسببة للإدمان أكثر بكثير من الحشيش والقات والمارايوانا والإمفيتامين والفنتلين.. وأي دولة تسمح بترويج التبغ يمكنها أيضا ترويج المخدرات إذ إن التبغ أشد تسبباً للإدمان من الحشيش والقات والإمفتيامين مجتمعة بعدة أضعاف.

برامج للعلاج

ولا شك أن ملايين المدخنين يودون لو يستطيعوا أن يتركوا التدخين ولكنهم للأسف أدمنوا ويصعب عليهم ترك التدخين، ويحتاجون إلى مساعدة طبية وتفهم لمشكلتهم ومعاناتهم، وأسلوب تقريع هؤلاء المدمنين غير ذي جدوى ولن يحل المشكلة، ولو كانوا من الأطباء، وهناك برامج لمعالجة المدمنين منها استخدام الإبر الصينية، واستخدام علكة النيكوتين ولصقة النيكوتين، والعقاقير المضادة للكآبة وأهمها عقار البوبروبيون Bupropion الذي أثبت فعاليته في مساعدة المرضى المدمنين للنيكوتين.. ويأخذ المدمن العقار قبل أسبوع من توقفه، ثم يتوقف عن التدخين ويستمر على أخذ العقار لمدة شهرين تقريب، وأهم من هذه الإجراءات هو لجوء المدمن إلى الله سبحانه وتعالى ليساعده في التغلب على إدمان النيكوتين، فكم من مدمن للنيكوتين أو الهروين أو الكوكايين لجأ إلى الله في السحر وصلى ودعا وبكى فاستجاب الله له. وإني أعرف عدداً من هؤلاء المدمنين الذين توقفوا تماماً عن الإدمان بعد صلاة خاشعة أو بعد دعوة صادقة، أو بعد عمرة مقبوله أو حج مبرور، ويقول تقرير الكلية الملكية للأطباء "إدمان النيكوتين في بريطانيا" الصادر عام 2000 م إن النيكوتين مثله مثل الهروين والكوكايين يسبب اعتماداً نفسياً وجسدياً ويظهر فيها جميعاً آثار سحب العقار، إلا أن الآثار البدنية لسحب العقار هي أشد ما تكون في الهروين ويأتي بعده النيكوتين ويأتي بعده الكوكايين.

ويعرّف الاعتماد النفسي بأن العقار المتناول يسبب لدى المتعاطي رغبة قوية في تكرار الجرعة، وزيادتها بانتظام، وإذا فقدها الشخص يشعر بضيق وقلق نفسي شديد ويبحث عن العقار قبل الطعام، وقبل أي شئ آخر، ويحدث عن سحب العقار فجأة توتر واضطراب وتشوش في التفكير، وعدم قدرة على التركيز كما تظهر على كثير من مدمني النيكوتين عند سحبه ارتعاشات في الأطراف وخاصة في اليدين، مع عرق بارد في بعض الأحيان.

وهذه الأعراض الجسدية تدل على أن النيكوتين بسبب اعتماداً نفسياً وجسدي، وبدون ريب فإن أعراض إنسحاب النيكوتين هي أشد من أعراض إنسحاب القات أو الحشيش (الماريوانا)، أو حتى حبوب الإمفتامين (الفنتلين) والمعروفة باسم حبوب الكونغو أو الكبتاغون لدى العامة والسائقين.

أما الاعتماد الجسدي الأشد فيوجد لدى مدمني الهروين والمورفين إذ إن سحب العقار يؤدي إلى حالات من الهلع والاضطراب والاهتزاز لكل الجسم مع عرق غزير وقئ وإسهال، وقد يفقد المصاب كثيراً من سوائل جسمه، وإذا لم يعالج فإن نسبة 10 % من هذه الحالات تلقى حتفها.

كذلك فإن مدمني الكحول والباريبتورات يعانون بصورة أكبر عند سحب العقار ويؤدي ذلك إلى الهذيان الارتعاشي ونوبات صرع شديدة، ونسبة الوفيات للحالات غير المعالجة تبلغ 20 %،

ومع هذا فإن حدوث إدمان الكحول هو أقل من حدوث إدمان النيكوتين فمن كل مائة شخص يشربون الخمر ويسمونهم الشارب الاجتـماعي Social Drinker فإن عشــرة بالمئة منهم سيصبحون مدمنين للخمـر، ولن يستطيعوا الفكاك من إدمانها بينما نجد 90% من المدخنين يصبحون مدمنين للسجائر.

ولابد أن نوضح أن إدمان الكحول والباريتورات خطر جداً وإن كان نادر الحدوث نسبياً ولا يشكل سوى 10 % من متعاطي الكحول الباريتورات، بينما إدمان النيكوتين أقل خطراً ولكنه يشكل 90 % (يقول تقرير الكلية الملكية للأطباء لعام 2000: إن الإدمان يشكل 95% من متعاطي السجائر وأن 5% فقـط منهم غير مدمنين للنيكوتين)، وإدمان النيكوتين هو أكثر بكثيـر من إدمان الخمور وجميع المواد المسببة للإدمان ابتــداء بالقات والحشيش والماريوان، وانتهاءً بالمورفين والهروين والكوكايين ومروراً بالإمفيتامين ومشتقاته والباريتورات ومشتقاتها.

بل إن عدد المدمنين في العالم للنيكوتين 1200 مليون يفوقون دون ريب بأضعاف مضاعفة عدد المدمنين والمتعاطين للخمور وجميع المواد التي يطلق عليها اسم مخدرات.

سياسة على عدة مستويات

إذا عرفنا هذه الحقائق فإن معظم من يدخنون قد بدأوا التدخين في سن المراهقة وكثير منهم قد بدأها في سن الطفولة (10 سنوات أو أقل) وبالتالي يصبح هذا الطفل أو المراهق مدمناً للنيكوتين، ومن الصعب عليه دون بذل جهود جبارة منه ومن معالجيه، أن يقلع عنه ويتغلب على الإدمان.

ولهذا فلا فرق بين أن يكون المدمن طبيب، أو محامي، أو أديب، أو إنساناً جاهلاً لأن الجميع بشر، وقدراتهم محدودة في مواجهة الإدمان، وبالتالي لابد من إيجاد سياسة قوية على عدة مستويات:

أولا: منع الأطفال والمراهقين من الوقوع في مستنقع التدخين فإذا انغرزوا فيه فمن الصعب جداً إخراجهم من المستنقع الآسن.

وهذا يحتاج إلى دور المدرسة ومناهج التعليم وتكاتف دور الإعلام والمسجد، كما أن كافة دول العالم تضع عقوبات مالية كبيرة للذي يبيع السجائر لمن هم أقل من 18 عام، وإذا قمنا بوضـع غرامة بخمسة آلاف ريال لكل من يبيع التبغ للأطفال والمراهقين أقل من 18 عـام، وأعطينا الشرطي صلاحية أخذ الغرامة بقسيمة مباشرة وشجعنا الشـرطة على هذا النشاط بإعطائهم 10 % مما يجمعونه فإنهم سيطاردون باعة التبغ لي**بوا دخلاً مهماً لأسرهم.

ثانياً: منع التدخين بما فيه الشيشة والجراك في الأماكن العامة، وكل محل عام (على البحر خصوصاً في جدة) يقدم الشيش والجراك للزبائن يغرم بمبلغ عشرين ألف ريال، وكذلك نعطي الحوافز لمن يقومون بمطاردة هذه الأماكن، كما أن التدخين في المدارس والمستشفيات والمطارات والإدارات الحكومية ممنوع الآن بمرسوم سامي ملكي، ولكنه غير مفعل، وتفعيله يقتضي غرامة بمائتي ريال لكل من يدخن في هذه الأماكن الممنوعة، وعلى نفس النسق نعطي من يقوم بالمهمة ومطاردة المدخنين 10% من الدخل.

ثالثا: السياسة الحكيمة في رفع وزيادة الضرائب على التبغ، والتي أوصلتها دول الخليج هذا العام إلى 150%، ولكن النقطة المهمة كما أوضحناها في مقال سابق هو أن التهريب سيزداد. وبدلاً من أن تدفع شركات التبغ ملياري ريال ضرائب فإنها مستعدة لدفع ربع هذا المبلغ ضرائب ثم تدفع مائة مليون ريال لتهـريب الكمـية الباقية، ونستطيع أن نمنع التهــريب بإعطاء حوافر 10% من قيـمة التبغ المضبوط وضريبته المضاعفة التي تصل إلى 300%، وسيدخل للدولة الضرائب مع الغرامات ما يوازي أو يقترب من دخل البترول.

وهو أمر مهم جداً جد، حيث إن الدولة تخسر بالفعل آلاف الملايين من الريالات سنوي، وينبغي أن يخصص جزء من هذه المبالغ الضخمة لمكافحة التدخين والتوعية بمضاره.

ولابد أن تكون لدينا رؤية واضحة، وهي أننا بعد فترة زمنية معقولة سنكون بلداً خالياً من الدخان بتات، وبدون شك هذا لن يمنع التهريب، ولكن الإجراءات القوية وإعطاء الحوافز الضخمة ستقلل إلى حد كبير من التهريب.

ويكفي في ذلك المبالغ المالية الضخمة التي ستجعل عملية البيع والتهريب للتبغ مكلفة جد، ومن يرفض الدفع فإن هناك وسائل أخرى وعقوبات أخرى لجعله يدفع ومنها السحب والتشهير والمصادرة لأمواله وممتلكاته... الخ.

ويجب علينا أن ننظر إلى محاربة شركات التبغ العملاقة قاتل البشر بصورة جدية، ولا شك أنهم أخطر من جـميع العصابات الإرهـابية مجتمعة في العالم. فلا توجـد جمـاعة إرهابية تسـتطيع أن تقتل خمسة ملايين شـخص كل عام، وأن تصيب مئات الملايــين بالأسـقام والأمراض.. وخطر هذه الشركات أكبر بمئات بل بآلاف المرات من خطر هؤلاء الإرهابيين..!